النحات السويسري إتيان كرانبول: المنحوتات لا نراها فحسب لكن نسمعها

المقاله تحت باب  فنون عالمية
في 
12/11/2008 06:00 AM
GMT



استعار النحات السويسري إتيان كرانبول عنوان "أزهار الشر" من الشاعر الفرنسي شارل بودلير، لكتابه الذي ضمنه عملاً نفّذه في عاليه العام ٢٠٠٠ مع ما للعمل من مقاطع ونماذج مشابهة، موزعة على صفحاته السبعين، التي شاركه فيها الكاتب والصحافي الفرنسي دافيد كولن بنص طويل عن الحرب في لبنان وأثرها في الأماكن والناس والحياة، بالتداخل مع عمل كرانبول المذكور أعلاه. كما شاركت فيه الروائية اللبنانية إيمان حميدان يونس بخاتمة دونت فيها انطباعاتها.
كان معرض الكتاب الفرنكوفوني، الذي أقيم في بيروت مؤخراً، مناســبة لتوقيع الكتاب الصــادر حديثــاً في سويسرا، بحضــور الفنان، الذي التقيناه العام ٢٠٠٠ في عاليه، وأجرينا معه حديثاً حول عمله، في إطار السيمبوزيوم الذي كان يقام في المدينة، وكان لقاء معه حول الكتاب وتجربته في عاليه، ومجمل نتاجه ومقولاته في التشكـيل، علماً أن العمل الذي لا يزال مزروعاً في منطقة رأس الجبل في عاليه، هو عبارة عن قضبان فولاذية رفيعة طالعة من الأرض، تحمل في رؤوسها شظــايا من قـذائف الحــرب، تتمــاوج مع حركة الريح كحقل قمح، وقد حمل عـنوان "حقل جروح".

"أزهار الشر" عنوان كتابك عن حال الحرب في لبنان، وعنوان آخر قريب لمنحوتتك. لماذا لا يرى الزائر الأوروبي أو الغربي في لبنان غير الحرب موضوعاً لفنه أو مؤلَّفه؟ 
- لا أرى أن الحرب بالنسبة إلى اللبنانيين قصة انتهت، ففي الخارج أعيد بناء الجدران من الخارج، إلا أنه ليس هناك إحساس بالسلام في الداخل. الذي يزور لبنان يشعر بهشاشة الوضع، وبإمكان نشوب صراع جديد في المستقبل. هذا ما استنتجته وأحسسته من خلال نقاشاتي مع دافيد كولن الذي كتب نص الكتاب، ومع إيمان حميدان يونس التي كتبت الخاتمة.

زرعت قضبان عملك في الأرض، كأنك تقول إن الحرب مستمرة. هل هذا ما ترمز إليه؟ 
- رمزيةُ عملي تتجه أكثر إلى الأمل. ولعل بنيته القائمة على زرع هذه الأزهار المعدنية تسمح بخلق حيّز للتذكار. بالتأكيد لم يتح لي أن أعرف الحرب هنا، لكن يتسع لي أن أتخيل أنني لا أستطيع أن ألغي الألم بمجرد إخفائه. في هذه الأزهار أبرز ذكرى الأشخاص الذين غادروا، وأتخيل أن هذه الأزهار سوف تكون باباً للرجاء في المستقبل.

تبدو القضبان الكثيرة المتجاورة كأنها حقل قمح، وفي عمل آخر لك تمثل طائر النورس، وفي أخرى أيضاً تنحاز إلى الطبيعة في منحوتــتك. ما الــذي تريد أن تقوله من خلال إعادة إنتاج الطبيعة؟ 
- الطبيعة هي الزمن الذي يحــصل فوق الزمن الذي يمر. لا أتطلع إلى الطبيعة لأعيد إنتاجها كما هي، أو في صورتها الحقيقية. أعمـالي التي أنفذها اليوم أسعى فيها لفهم كنه الطبيعة، وأبسّط بالقول: فهم كنه ومعنى الحياة.
لكن، في أي حال، تعيش المنحوتات والتجهيزات في الزمن والحــرارة والريح والطبيعة. في كل قطعة من أعمالي النحتية تجد الخيط الرهيف الذي يعيد وصلنا بسحر وإعجاز كل لحظة.
 
كلامك يشبه الشعر، وعنوان »أزهار الشر« شعري. هل تصر على وجود الشعرية في منحوتتك؟ 
- بضعة أعمال لي هي شعرية. همّي الأساسي أن أرسي، إذا جاز التعبير، فكرتي في المادة. بهـذا البحث الفلسفي لا أهمية كبــيرة للشعر والزيّ. مسعاي أن أســافر أو أتجول في ما هو جوهري. أحياناً أكون تشبيهياً، أو بلاستيــكياً، أو معـاصراً، أو مفهومياً. المهم هو الإبقاء على الأصالة.

أي أصالة؟ كيف تفهمها؟ 
- هو أن ينقل المرء ما في داخله من دون اصطناع.

لكن كيف يمكن أن تكون تصويرياً تشبيهياً وفي الوقت نفسه مفهومياً في أعمالك؟ 
- أرى أن الفنان يستطيع أن يتقدم ببقائه منتجاً. ينبــغي أن يــجد لنفسه أسلوباً. لكن عملياً، منذ عشر سنوات، اتجهت أبحاثي نحـو استــخدام مواد جـديدة، فأنا اكتــشفت، مع فيزيائي، تمازج ذاكرة الأشكال، ما أوصلني إلى رؤيتي في العمل الفني.
التضاد بين المواد، حديد، خشب، حجر ومواد جديدة أو ما تسمى "مواد ذكية"، تسمح لي أن أطور نظرة خاصة في عملي. في النتيجة، الموضوع يتخذ حياة ويقــدم لي أبعاداً أخرى. بفضل هذه الحركة والإيقاع أنتج منحوتاتي الجديدة (بينغ بونغ، أمواج...) التي تترجم حالات ولحظات تحاكي التنفس وخفقان الأمواج التي تتقدم نحو الشاطئ.

تحريك المعدن

الحركة عنصر إضافي في منحوتتك، تصدر عن أجسام معلّقة، أو قضبان رفيعة تميل مع الهواء. 
هذا يعود إلى طبيعة المادة المستخدمة وخاصية المعدن.
هل تقصد أن خاصية المعدن هي التي تؤدي إلى الصوت أم أنك تتقصد استحضار الصوت فتأتي بالمعدن الملائم؟ 
- ما تراه هو زواج للإثنين معاً، طبيعة المواد تفتح لي أفقاً وتجعلني أستشرف.

ربما تريد إضفاء الحياة إلى المعدن من خلال الحركة. 
- نعم. ما من حياة من دون حركة. في منحوتاتي الفضاء الذي بين الأشياء هو الذي يخلق حركتها وسحرها. عندما نرى حقل »أزهار الشر« وننظر إليه كأثر فني، لا نشعر بأن لهذا الحقل صلة بالحرب. وحقيقة الأمر أن له علاقة بالحرب، لكنه لا يعيدها أو يبرزها كما فعل الفنان الفرنسي الراحل أرمان، عندما وضع سيارات وآليات عسكرية في برج إسمنتي، ما يجعل الناس يتذكرون الحرب كعقوبة.
أبحث عن الحميمية في منحوتتي، حتى لو كان المدى الذي يحتله واسعاً، فإن ذلك لا يلغي حميميته.

هل المعدن الذي استخدمته، برأيك، يساعد على خلق الحركة أكثر من المواد الأخرى؟ 
- المعدن كان دائماً سحرياً أو مقروناً بالسحر. كان هناك سر في المعادن. خذ النيازك والشهب مثلاً.

تحرص دائماً على أن تكون في كل منحوتة مفاجأة صادمة. 
- ليست الصدمة هدفاً. هذه مجرد حالة بحثية. هذا ما تشعر به أنت، وما لا أستطيع أن أتكلم عليه طويلاً.

أزهار وشظايا

تبني الشكل من تكرار المفردات المنحوتة. هل هناك فلسفة خاصة وراء ذلك؟ 
- هذا هو الواحد والآخر. المواد نفسها هي التي تجبرني على أن أضع عديدها في حال من التماثل. في أحد التماثيل مكعبان يسعيان خلف بعضهما في دوران يتضمن حالة من الإغواء. أحياناً أضع الأشياء في حال من الفوضى، لكن في حركة إيقاعية، ما يجعل بعضها يجد البعض الآخر، فالمنحوتات ينبغي أن نراها وحسب، لكن ينبغي أن نسمعها أيضاً.

لكن التكرار يؤدي إلى مشهد زخرفي تزييني. 
- هذا صحيح في الأشياء الثابتة مكانها، أما تلك المتحركة فهي ليست كذلك، ولا تعطي انطباعاً بالزخرفة. ذلك أشبه بمحرك حين يكون مطفأ يكون ثابتاً وعندما يدور يتحول إلى طاقة. بهذه الصورة أريد أن أفسر مسائلي في العمل.

ليس التكرار وحده يدخلنا إلى المنطق الهندسي، إنما نرى الكثير من الأشكال الهندسية المستخدمة، مثلثات ومكعبات ومتوازيات المستطيلات ودوائر وكرات وما إلى ذلك. هذا يخفف من المشاعر في المنحوتة ويأخذها إلى شيء من العقلنة. 
- الكتاب الذي اطلعت عليه، يضم أعمالاً لي من ثلاث سنوات. أما منحوتاتي الجديدة فهي تعبّر أكثر عما أقول. قصدت تبسيط الشكل كي أترك المظهر يتكلم من تلقائه.

أخذت مادة كتاب "أزهار الشر" من لبنان إلى سويسرا، أليس لديك رغبة في إعادتها إلى أرضها، من خلال ترجمتها إلى العربية؟ 
- هذا ممكن. الكتاب حالياً قيد الترجمة.

ما علاقة "أزهار الشر" عندك بأزهار بودلير؟ لماذا استعرت التسمية؟ 
- أولا، العنوان جاءنا ونحن نتكلم على هذه الشـظايا، ثم إن وضع الشظايا على سيقان النباتات جعلها أزهاراً. وأن تتحرك هذه السيقان مع النسائم والريح ومع اختلاف درجة الحرارة يجعلها شبــيهة بالأزهار أيضاً. ولا تعني شظية القذيفة سوى الشر. هكذا جاء العنوان بالنسبة إليّ، أما بودلير فشاء أن يبرز ما في الانحراف الشعري من جمال. وجدت بين الأمرين تقاطعاً وتراسلاً وتفاعلاً مذهلاً.